www.sunnaonline.org

رحلة العمر

نقف اليوم عند ما حصل مع سيدنا إبراهيم عليه السلام بَعْدَ أنِ انْتَهى مِنْ بِناءِ الكعبةِ، فقد أَمَرَهُ اللهُ تعالى بِأَنْ يُنادِي في الحجّ، قالَ تَعالى ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [سورة الحج]. فقالَ إبراهيمُ «يا ربّ كيفَ أُسْمِعُهُم» فقال اللهُ لهُ «عليَّ البلاغ» أيْ أنا أُسْمِعُهُم، (وكلامُ اللهِ ليسَ ككلامِنَا فليسَ صَوتًا ولا حَرْفًا ولا لُغَةً) فنَادَى سيّدُنا إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ في مكانِهِ «يا أيُّها النّاسُ إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحجَّ»فَسَمِعَ كلُّ روحٍ يَحُجُّ إلى يومِ القيامةِ صوتَ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ.

ها هوَ موسِمُ الحجّ قدْ أقبلَ فاخْتَلَجَتْ لهُ القلوبُ في صدورِ المؤمنينَ، وتَهيّأ منْ تَيَسَّرَ لَهُمُ الأمْرُ لِرِحْلَةِ العُمْرِ لأداءِ هذهِ الفريضةِ المُعَظَّمَةِ، وزيارةِ تلكَ الرّحَابِ المقدّسَةِ التي كانَ فيها سيّدُ المرسلينَ وخيرُ النبيينَ سيّدُنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلم. وبَقِيَتْ قلوبٌ يَغْمُرُهَا الشَّوْقُ والحنينُ بُغْيَةَ السَّفَرِ لأداءِ هذِهِ الفريضةِ العظيمةِ في عامٍ قادمٍ لا ندري أَيُقْبِلُ ونحنُ أحياءٌ أمْ نَكونُ تحتَ أطباقِ الثَّرَى. ويَشُدُّ المؤمنونَ الرّحالَ فلا يَسْتَبْعِدونَ مِنْ حبّهِمْ بعيدًا، عَرَفُوا قَدْرَ الآخِرَةِ فَهانَ عليهِمُ التَّعَبُ وطَوَّعُوا أَنْفُسَهُم، خَافُوا الوَعيدَ فَقَرُبَ عَلَيْهِمُ البعيدُ.

عبادَ اللهِ، ثَمَّةَ رجالٌ قَصَدُوا الحجَّ مَشْيًا على الأقدامِ، مِنْهُمْ رجُلٌ يُقالُ لهُ إبراهيمُ بنُ أدهمَ الذي رءاهُ رجلٌ كان راكبًا ناقته فقالَ لَهُ: إلى أينَ يا إبراهيمُ؟ قالَ إبراهيمُ: أريدُ الحَجَّ. فقالَ الرَّجُلُ: ولكنَّ الطريقَ بعيدٌ أينَ الرّاحِلَةُ؟ فقالَ إبراهيمُ: لي مَراكِبُ كثيرةٌ ولكنَّكَ لا تَراها. فقالَ الرَّجُلُ: أينَ هِيَ؟ فقالَ إبراهيمُ: إذا نَزَلَتْ فيَّ مُصيبَةٌ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الصَّبْرِ، وإذا نَزَلَتْ بي نِعْمَةٌ رَكِبْتُ مركَبَ الشُّكْرِ، وإذا نَزَلَ القَضاءُ رَكِبْتُ مَرْكَبَ الرّضا، وإذا دَعَتْنِي نَفْسي إلى شىءٍ عَلِمْتُ أنَّهُ ما بَقِيَ مِنَ الأَجَلِ إلا قليلٌ. فقالَ الرجلُُ: سِرْ بإذنَِ اللهِ فواللهِ أنْتَ الرّاكِبُ وأنا الماشِي.

هناكَ تَنالُ النُّفوسُ مَطْلَبَها، وتَجِدُ الأَرواحُ المُشْتَاقَةُ تِرياقَهَا وبَلْسَمَهَا، هناكَ يطوفُ النَّاسُ بالبيتِ العَتيقِ، يطوفونَ بِبَيْتِ اللهِ الحرامِ ولِسانُ حالِهِمْ يقولُ: يا ربُّ مَهْمَا دُرْنا واستَدَرْنا لا مَلْجَأَ لنا إلا إِليْكَ. هناكَ عندَمَا تَسْتَلِمُ الحجرَ الأسودَ وتُقَبّلُهُ تَسْتَحْضِرُ أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قدْ مَسَّتْ شَفَتَاهُ هذا الحجَرَ. هناكَ إذا صلّيتَ أمامَ الكعبةِ ورفعْتَ رأْسَكَ مِنَ السُّجودِ فَطالَعَتْكَ أنوارُ الكعبةِ، وتَنَسَّمْتَ عَبْقَ شَذاهَا، سَتَجِدُ مَرَّةً أخرى شاهِدًا بأنَّكَ عَبْدٌ لِرَبّ هذا البيتِ. هناكَ عندما تَسْعَى بينَ الصَّفَا والمرْوَةِ تَسْتَحْضِرُ قِصَّةَ سيّدَتِنا هاجَرَ وولَدِهَا إسماعيلَ لَمَّا تَرَكَهُمَا إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ وكانَ المكانُ قَفْرًا صحراءَ، وقد سألته «يا إبراهيمُ أينَ تَتْرُكُنَا في هذا المكانِ الذي ليسَ فيهِ سَميرٌ ولا أنيسٌ» وكانَ سيدنا إبراهيم يريدُ أنْ يُطيعَ الله فيمَا أَمَرَهُ، قالَتْ لَهُ: اللهُ أَمَرَكَ بِهذا؟ فقالَ: نَعَمْ. فقالَتْ لهُ بِلِسانِ اليقينِ: «إذًا لا يُضيّعُنا» وأَظْهَرَ اللهُ لَها الماءَ السَّلْسَبيلَ العَذْبَ ماءَ زَمْزَم.

وبِثِيابِ الإحرامِ البيْضاءِ يَزْدَحِمُ النَّاسُ في عَرَفات، يَدْعونَ اللهَ ويَبْتَهِلونَ لَه فإنَّهُ يومُ عَرَفَةَ، وقد قالَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «ما رُؤِيَ الشَّيْطانُ أَصْغَرَ ولا أَحْقَرَ ولا أَدْحَرَ ولا أَغْيَظَ مِنْهُ في يَوْمِ عَرَفَةَ وما ذاكَ إلاّ أنَّ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ فيهِ فَيُتَجاوَزُ عَنِ الذُّنوبِ العِظامِ». وبعدَ ذلكَ كلّهِ تحط الرحالُ في المدينةِ المُنَوَّرَةِ التي هيَ أفضلُ بلادِ الله بعدَ مكَّةَ المكرَّمَةَ، إنَّها المدينةُ التي كانَ يَقولُ فيهَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم «إنَّ الإيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينةِ كمَا تَأْرِزُ الحيَّةُ إلى جُحْرِهَا». إنَّها المدينةُ التي لا يَدْخُلُهَا الأعوَرُ الدَّجَّالُ بَلْ يكونُ علَى مَداخِلِهَا ملائِكَةٌ يَمْنَعونَهُ مِنْ دُخولِهَا. إنّها المدينةُ المباركَةُ لِحَديثِ البُخَارِيّ«اللهمَّ اجْعَلْ بِالمَدينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ».

وفي المدينةِ المنورةِ رَوْضَةٌ منْ رِياضِ الجَنَّةِ بَيْنَ قَبِْر وَمِنْبَرِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. إنهَّا المدينةُ التي ضَمَّتْ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم تَهْفُو إليْها قلوبُ الموحّدينَ وتَرْحَلُ إليها قَوافِلُ المؤمنينَ شوْقًا إلى حبيبِ ربّ العالمينَ.

سلامُ الله يا بدرَ البدورِ عليكُمْ صاحب القدرِ الكبيرِ
سلامُ الله يا هادي فؤادي سلامُ الله من قلبٍ كسيرِ
على نوقٍ من الأشواقِ أحْدو ألا يا نوقُ للمختارِ سيري
لربعِ مدينةٍ ضاءتْ وفاحتْ بها الأطيابُ من أحلى عبيرِ
نزورُ اليومَ خيرَ الناس طُرًّا فأَرفعَ منه قدرًا لنْ تزوري

كيفَ لا تكونُ هذهِ الرّحْلَةُ هيَ رِحْلَةَ العُمْر وراحَةَ العُشّاقِ، يسيرُ الرَّكْبُ يَحْدوهُ الهُيامُ، وتجري دموعُ الحبّ بانْسِجامٍ لِبَيْتِ اللهِ الحَرامِ، لِمُحَمَّدٍ خَيْرِ الأنَامِ بَدْرِ التَّمَامِ.



رابط ذو صله : http://www.sunnaonline.org
القسم : الحـــج والعمــرة
الزيارات : 4107
التاريخ : 25/10/2012