الخطبة الأولى
إن الحمدَ للهِ نحمدُه ونستعينُه ونستهديه ونشكرُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يهدِ اللهُ فلا مضلَّ له، ومن يُضلل فلا هاديَ له. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، وأشهد أنّ سيدَنا وحبيبَنا وعظيمَنا وقائدَنا وقرّةَ أعينِنا محمدا عبدُه ورسولُه وصفيُّه وحبيبُه، اللَّهُمَّ صلِّ وسلم وبارك على سيدِنا محمدٍ وعلى ءالِه وأصحابِه الطيبين الطاهرين.
أما بعد عبادَ الله، فإني أوصيكم ونفسي بتقوى اللهِ العليِّ العظيم ألا فاتقوه، يقول ربنا تبارك وتعالى في القرءان العظيم {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.
أسرى بعبدِه أي سيَّرَ عبدَه ليلا، وإنما أتبعَ بذكرِ الليلِ تأكيدا ومريدا به تقليلَ مدّةِ الإسراءِ وأنه قد تمَّ في بعضِ ليلةٍ. ونسبَةُ النبيِّ إلى ربِه بوصفِ العبوديةِ غايةُ الشّرفِ للرسولِ صلى الله عليه وسلم. والمسجدُ الحرامُ سمّيَ بذلك لحرمتِه وشرفِه على سائرِ المساجدِ وبمضاعفةِ الأجرِ فيه أكثر مما في غيرِه من مساجدِ الدنيا إلى أضعافٍ كثيرةٍ جدا. والمسجدُ الأقصى سُمي بذلك لبعدِ المسافةِ بينه وبين المسجدِ الحرامِ، وقد بناه نبيُ الله ءادمُ عليه السلام بعد بنائِه المسجدَ الحرامَ بأربعين سنةً. وبيّنَ اللهُ لنا في هذه الآيةِ أنّه مباركٌ ومباركٌ ما حولَه لأنه مقرُّ الأنبياءِ ومهبطُ الملائكةِ. وقولُه تعالى {لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا} أي ما رأى تلك الليلةَ من العجائبِ والآياتِ التي تدلُّ على قدرةِ اللهِ تبارك وتعالى.
فمرَّ الحبيبُ محمدٌ صلى الله عليه وسلم بيثرب وهي المدينةُ المنورةُ اليومَ، وكان لم يهاجرْ إليها بعد، ونزلَ وصلى فيها ركعتين. ومرَّ بطورِ سيناءَ حيث كانَ موسى لما كشفَ اللهُ عن سمعِه الحجابَ فسمعَ كلامَ اللهِ الذي لا يُشبهُه كلامٌ ونزلَ النبيُّ وصلى ركعتين. وفعلَ مثلَ ذلك عندما وصلَ إلى مَدينَ مدينةِ النبيِّ شعيب عليه السلام.
وعندما وصلَ إلى بيت لحم حيث وُلد عيسى عليه السلام، وفي بيتِ المقدسِ جمعَ اللهُ الأنبياءَ من ءادمَ إلى عيسى عليهم السلامُ وكانوا قد ماتوا قبلَ ذلك إلا عيسى فإنه رُفعَ حيا إلى السماءِ الثانيةِ، وصلى بهم مَنْ فضَّله اللهُ على جميعِ من سواه، صَلّى بهمُ الشفيعُ والحبيبُ للإله إماما وهذا يدلُ على أن الأنبياءَ لهم تصرفٌ بإذن اللهِ بعد موتِهم.
ورأى النبيُّ صلى الله عليه وسلم في إسرائِه الدنيا بصورةِ عجوزٍ، قبيحةِ المنظرِ، عليها الجواهرُ. ورأى خطباءَ الفتنةِ تُقرضُ ألسنتُهم وشفاهُهم بمقاريضَ من نارٍ وما أكثرَهم اليومَ، يبيعون دينَهم بعرضٍ من الدنيا قليلٍ.
ورأى ثورا يخرجُ من منفذٍ ضيقٍ ثُمَّ يريدُ العودةَ منه فلا يستطيعُ، فقالَ له جبريلُ: هذا حالُ الذي يتكلمُ بالكلمةِ الفاسدةِ التي فيها ضررٌ على الناسِ وفتنةٌ ثُمَّ يريدُ أن يردَّها فلا يستطيعُ. فمن كانَ يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيرا أو ليصمُتْ.
ورأى صلى الله عليه وسلم حالَ تاركي الصلاةِ ترضَخُ الملائكةُ رؤوسَهم بالصخرِ ثُمَّ تُعادُ كما كانت. فإياكم أن تتثاقلَ رؤوسُكم عن أداءِ الصلاةِ.
ورأى حالَ الزناةِ يتنافسون على اللحمِ النتنِ ويتركون الجيدَ المشرَّحَ.
ورأى حالَ الذين يمشون بالغيبةِ يخمُشُون وجوهَهم وصدورَهم بأظافرَ من نحاسٍ. وشمَّ رائحةً طيبةً تنبعثُ من قبرٍ فإذا هو قبرُ الشهيدةِ ماشطةِ بنتِ فرعونَ التي ثبتت على الإسلامِ بالرغم من أنّ الثمنَ كانَ باهظا جدا إذ ألقاها الخبيثُ وأولادَها حتى الطفلَ الرضيعَ في الماءِ المغليِ.
ثُمَّ نُصبَ المعراجُ وهو شِبهُ السلمِ درجة من فضةٍ ودرجة من ذهبٍ. فارتقى عليه المصطفى عليه الصلاة والسّلام إلى ما فوقَ السمواتِ العلى تشريفا له وتكريما. فرأى البيتَ المعمورَ في السماءِ السابعةِ يدخلُه كلَ يوم سبعون ألفَ ملكٍ لا يعودون إليه بعد ذلك.
ورأى سدرةَ المنتهى وهي شجرةٌ عظيمةٌ بها من الحُسنِ ما لا يستطيعُ أحدٌ من خلقِ اللهِ أن يصفَه، يغشاها فَراشٌ من ذهبٍ، ثمارُها كالجرارِ العظيمةِ، وأوراقُها كآذانِ الفيلةِ، أصلُها في السماءِ السادسةِ وتمتدُ إلى ما فوق السابعةِ وما بين السماءِ والسماءِ مسيرةُ خمسمائةِ عامٍ. سبحان الله العظيم وبحمده.
ورأى أيضا جبريلَ عند سدرةِ المنتهى على صورتِه الأصليةِ، له ستُمائة جناحٍ.
ورأى نبيّنا صلى الله عليه وسلم الجنةَ ودخلَها ورأى فيها الحورَ العينَ وأخبرَ أن أكثرَ أهلِها الفقراءُ، ورأى العرشَ العظيمَ الذي خلقَه الله إظهارا لقدرتِه ولم يتخذْه مكانا لذاتِه وحولَه الملائكةُ يسبحون بحمدِ ربِهم لا يعلمُ عددَهم إلا الله.
وتقدمَ المصطفى حتى وصلَ إلى موضعٍ سمعَ فيه صريفَ أقلامِ الملائكةِ التي تنسخُ من اللوحِ المحفوظِ في صحفِها، وسمعَ كلامَ اللهِ الذي لا يُشبهُه كلامٌ.
إخوتي، لقد كانَ إسراءُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعروجُه إلى السمواتِ ثُمَّ عودُه إلى مكةَ في نحوِ ثلثِ ليلةٍ. فأخبرَ المشركين فلم يصدقُوه وظنُوا بها فرصة لمحاربتِه فجمعُوا من يعرفُ الأقصى وطلبُوا منه أن يصفَه لهم لأنهم يعلمون أنه لم يرحلْ مع أهلِ بلدِه إلى هناك قط فجعلَ النبيُّ يُجيبُهم حتى قالَ قائلُهم: أما الوصفُ فقد واللهِ أصابَ.
الخُطبةُ الثانيةُ
إن الحمدُ للهِ والصلاة والسلام على رسول الله محمد، أنا بعد عبادَ اللهِ فإني أُوصِيْكم ونفسِيَ بتقْوَى اللهِ العَليّ العظيمِ ألا فاتقوه. ففي زادِ المسيرِ في علمِ التفسيرِ قالَ: رُوي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه سُئلَ عن تفسيرِ سبحانَ الله فقالَ: تنزيهٌ للهِ عن كلِ سوءٍ، فاستحضروا هذا المعنى في قلوبِكم دائما، في كلِ أحوالِكم، حتى لا يدخلَ عليكم الشيطانُ من أحدِ أبوابِه، وما أكثرَ أبوابَه، فيوهمُ تشبيهَ اللهِ بخلقِه لا سيما في هذه الذكرى المباركةِ التي دسَّ فيها أعداءُ الإسلامِ سموما فنسبُوا للهِ الجسميةَ والحلولَ في المكانِ وزعمُوا كاذبين أنّ النبيَّ التقى بربِه كما تلتقي الأجسامُ وفسّروا: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} بأن اللهَ اقتربَ من محمدٍ بالمسافةِ. وأهلُ السنةِ يعلمون أنّ جبريلَ هو من دنا من محمدٍ. فقد روى مسلمٌ عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: إنما ذاك جبريلُ، وبالغَ الكفارُ في دسِّهم حتى قالُوا: إن محمدا وجدَ ربَه يصلي في السماءِ فجعلوه جسما له حدٌّ وكيفيةٌ. وزعمُوا أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم استوحشَ ولم تزُلْ وحشتُه حتى كلَّمَه ربُه بصوتِ أبي بكرٍ. والصوتُ من صفةِ المخلوقِ والعياذ بالله. ثُمَّ هل يستوحشُ من بلغَ غايةً من الإكرامِ. فعجبا من كلِ هذه الأكاذيبِ التي لا يرضاها مسلمٌ.
واعلَموا أنَّ اللهَ أمرَكُمْ بأمْرٍ عظيمٍ أمرَكُمْ بالصلاةِ والسلامِ على نبيِهِ الكريمِ فقالَ وهو أصدق القائلين {إِنَّ اللهَ وَملائكتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}. اللّهُمَّ صَلّ على محمَّدٍ وعلى ءالِ محمَّدٍ كمَا صلّيتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ وبارِكْ اللهم على محمَّدٍ وعلى ءالِ محمَّدٍ كمَا بارَكْتَ على إبراهيمَ وعلى ءالِ إبراهيمَ إنّكَ حميدٌ مجيدٌ.
اللّهُمَّ إنَّا دعَوْناكَ فاستجبْ لنا دعاءَنا، اللّهُمَّ اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرِنا، ربَّنا ءاتِنا في الدنيا حسَنةً وفي الآخِرَةِ حسنةً وقِنا عذابَ النارِ، اللّهُمَّ اجعلْنا هُداةً مُهتدينَ غيرَ ضالّينَ ولا مُضِلينَ، اللّهُمَّ استرْ عَوراتِنا وءامِنْ روعاتِنا واكفِنا مَا أَهمَّنا وَقِنا شَرَّ ما نتخوَّفُ. اللهم أعد علينا هذه الذكرى بالأمن والأمان يا أرحم الراحمين، وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين، وَأَقِمِ الصلاةَ.
رابط ذو صله : | http://www.sunnaonline.org |
القسم : | منـاسبات إسـلامية |
الزيارات : | 13637 |
التاريخ : | 24/6/2011 |
|